|
كيف؟ كيف أهاجر وأترك أمي وإخوتي للزمن، كيف أهاجر وأتركهم بعد وصية والدي بالبقاء إلى جانبهم وعدم التخلي عنهم مهما حدث؟ كيف أهاجر وأترك وطني وبلدي ومدينتي التي ربيت فيها؟ كيف أهاجر وأخون بيتي وأرضي وأرمي ماضي ورائي؟ طبعاً لا لن أهرب من مسؤولياتي وسأبقى هنا لأواجه الحياة.
"الجامعة … العمل … المال" "الجامعة … العمل… المال"، ظلت تلك الكلمات تتردد على مسامعي طوال تسكعي على الشاطئ، أحاول طردها من ذهني ليرددها قلبي، "الجامعة…العمل …المال" حلم جميل قد لا يتحقق مطلقاً على هذا الشاطئ، ولكن ربما……وأنظر نحو البحر الذي يكاد أن ترى في آخرة اليابسة، نعم إنها ُترى من هنا ؛ إني أراها ولكنها لا تناديني كما قال رشيد؛ لأنها ليست لي، إنها لهم، وأنا لهذا الشاطئ الرملي الذي أنجبني، أنا لي بلدي التي تؤويني وتحميني، لن أهاجر، أنا من بلدتي وإلى بلدتي ولبلدتي الحبيبة التي لا أبيعها في لحظة ضعف وأن الزمن أدار ظهره لي لا يعني أنه سيديره كل العمر .
لا أستطيع أن أزيح نظري من الشاطئ المقابل وكلمات رشيد تتردد هناك، ربما تلك الكلمات حتى لو جازفت لن أحصل عليها، فليس كل من هاجر حصل على ما أراد …ولكن هناك من حصل وهم قل…لا لا لن أهاجر، لن أحاول أن أقنع نفسي بهذه الفكرة، برغم شبه توقي إليها.
جاء وجلس معي على القهوة العتيقة في حارتنا، وقال: أين أنت منذ زمن؟. وقبل أن أجيبه قال بتسرع: السفر مساء الغد … آسف بأني لم أخبرك قبلاً فقد فاجأني السمسار منذ قليل … في الساعة الحادية عشرة مساءً ولا تحضر معك سوى بعض الملابس القليلة التي قد تحتاجها … لا تنس الموعد … وداعاً. ولم ينتظر مني رداً على ما قال ربما لأنه أراد أن يفرض عليَّ رأيه كالعادة، ويبدو أنه في الأسبوعين اللذين غابهما عني كان يحضر للسفر حسبما يسميها، وكلما سأل عني لم يجدني لأني كنت أبحث عن أي عمل أجني منه بضعة جنيهات، ولكن لا شيء، أخشى أني على وشك الاستسلام له ولأفكاره.
"اجلسوا هنا حتى أجهز الطوافة، سأحملكم على مجموعتين لأنكم كثير، ولأن حرس الحدود الأسبانية يحتفلون بآخر الأسبوع لا تصدروا أي ضوضاء وانتظروني حتى أناديكم".
قالها السمسار وساعتي تدق الحادية عشرة… وقد كان معي ثلة من الشباب …أعرف معظمهم كانوا زملائي بالدراسة، ومن هذا أيضاً ؟… أه…إنه جارنا يا إلهي كيف سيترك زوجته وأبناءه ويهاجر؟، كلهم خائفون يرتجفون مقبلون على الموت أو على الحياة وكأن سيف الشاطئ أصبح الصراط المستقيم، البرد قارص رغم ارتدائنا الملابس الثقيلة كلهم تكوروا خلف الأشجار مطالبين بالدفء رغم توهج قلوبهم رعبا، ما الذي دفعهم إلى ذلك.. وهل هذا سؤال؟ بالطبع الذي دفعني لذلك.
نحن على وشك صفقة خاسرة مع القدر حتى وإن ربحنا هناك سنكون قد خسرنا جنسيتنا الحقيقية وأصلنا النابض وعروبتنا الأصيلة، لا وقت للندم، وقد فات الأوان على التراجع ولا أجدني سوى أن أقول "أشهد أن لا إله إلا الله " عشت أم مت، وضميري يؤنبني لأني غادرت دون أن أودع أمي فلم أطق دموعها الدائمة؛ بل خفت عليها حين تعلم بأني مهاجر، واكتفيت بالنظر إليها وهي نائمة عندما خرجت وتقبيل إخوتي وهم نيام.
وأنا مغادر قاومت دموعي التي قاومت مقاومتي لها، ولكن عليها أن تعلم بأني أهاجر لأجل أمي ولأجل إخوتي، سنين معدودة أغيب أثناء دراستي ثم أبدأ بإرسال النقود إليهم، نعم سأفعل ذلك، وإن قيل لي أن أغلبهم يقولون ذلك قبل السفر وما أن يطئوا تلك البلاد حتى ينسلخوا من أصلهم وتظهر أنانيتهم ومنهم من يضيّع دينه بعد أن يضيّع أخلاقه، كيف استطاعوا ذلك؟.
|
Tags
You must be logged in to add tags.
Writer Profile
anas
This user has not written anything in his panorama profile yet.
|
Comments
You must be a TakingITGlobal member to post a comment. Sign up for free or login.
|
|