by Sameer Hejazi
Published on: Apr 10, 2010
Topic:
Type: Opinions

العولمة: و : الثقافة
قبل سنوات عدة كان الحديث منصبا بشكل كبير حول تداعيات الغزو الثقافي و ما يسببه من تحديات حضارية شاملة، وتأثيرات سلبية على المجال الثقافي خاصة داخل العالم العربي و الإسلامي.
و خلال تلك الموجات المتتالية لما أطلق عليه (غزو ثقافي) تحركت أقلام المثقفين العرب و الإسلاميين معادية بالوقوف في وجه هذا الغزو المنظم الذي يهدد الهوية الحضارية للأمة العربية و الإسلامية، و يعمق حالة الاستلاب الثقافي و على الرغم من تلك المناداة و نواقيس الخطر التي دقت، و الاتهامات التي وجهت لعدد من المؤسسات الحكومية و الأهلية، وكذا النخب المتغربة، باعتبارها تشجع هذا الغزو الثقافي وتعمقه بطرق غير مباشرة و ذلك بإهمال اتخاذ التدابير الوقائية من جهة و مباشرة في بعض الأحيان، خصوصا ما تقوم به النخب المتغربة التي تبشر و تنشر عددا من النظريات و القيم التي تقوم عليها الحضارة الغربية، على أنها قيم إنسانية توصل إليها الإنسان الغربي عن طريق التطور التاريخي الحتمي.
و بالتالي فقد تُعومِلَ مع هذا الغزو الفكري و ألقيمي الغربي، على أنه إحدى موجات الحداثة الفكرية التي يجب على العالم العربي و الإسلامي أن ينخرط فيها و يستوعب معطياتها إن أراد أن يواكب العصر و يساير التطور الحضاري الإنساني.
لكن بالرغم من كثافة هذا الغزو الفكري الغربي، و التشجيع المباشر وغير المباشر الذي يلقاه داخل العالمين العربي و الإسلامي، من طرف المؤسسات أو النخب إلا شرائح عريضة من المجتمع و من بينها قطاعات نخبوية لم يؤثر فيها هذا الغزو بـــمقدار تنبيهها لخطورته، و ضرورة إيجاد ردات فـــعل، تبلورت فعلا في محاولات حثيثة للبحث عن وسائل و آليات تدعم الممانعة الثقافية و الحضارية بشكل عام.
و قد أدت ردود الفعل هذه، و الحديث عن بلورة آليات للممانعة إلى انفجار النقاش حول جدوائية الانفتاح على قيم الغرب و ثقافته و هل يعتبر ذلك ضروريا بحكم الغلبة الحضارية، و أن كان كذلك فما مقدار هذا الانفتاح و ما هي حدوده القصوى؟
كما تناولت الأقلام التداعيات السلبية للتغريب و الاستلاب الثقافي، باعتبار أن النهضة العربية و الإسلامية المنشودة لن تقوم على قاعدة جماهيرية مستلبة، و مشوهة الهوية، و مهجنة فكريا و ثقافيا.
و قد ساهم الصراع الأيديولوجي يبن الشرق و الغرب، و انقسام دول العالم الثالث ـ و من بينهما الدول العربية و الإسلامية ـ بين مناصر أو مناهض للشرق أو الغرب، في دعم الجهود التي كانت تبذل لمواجهة و مقاومة بعض عناصر الغزو الثقافي، لان ذلك كان يصب في دعم الدولة الوطنية و اختياراتها الإيديولوجية في السياسة و الاقتصاد خصوصا. و بالتالي فقد كانت بعض العناصر التي تعتبرها مئات من النخب ـ الإسلاميون خصوصا ـ غزوا فكريا و قيمياً غربيا ـ الغرب هنا بشقيه ـ الرأسمالي و الاشتراكي ـ اختياراً إيديولوجيا للدولة أو الحزب الحاكم. لذلك فقد كان الصراع الفكري داخل الدول العربية و الإسلامية بين النخب، يدور حول تحديد مفهوم هذه الاختيارات الإيديولوجية، و هل يمكن اعتبارها من قبيل الغزو الفكري الذي يمس الهوية الفكرية و الحضارية للأمة. أم يندرج ضمن التطور السياسي و الاقتصادي و الفكري، الذي جاء كنتيجة طبيعية للتطور الحضاري الذي تعرفه الإنسانية، و استجابة ضرورية للاحتكاك الحضاري الذي نعيشه، و الذي لا يمكننا تجنبه بحال من الأحوال.
إلا أن في هذه المرحلة التي كثر الحديث فيها حول الغزو الثقافي و تداعياته السلبية، لم تكن وسائل الإعلام و وسائط الاتصال قد بلغت من التطور و الانتشار ما وصلته الآن و هذا التطور الثقافي في وسائل الإعلام، واكبته أحداث سياسية و اقتصادية مهمة عرفتها الساحة العالمية. فالمعسكر الاشتراكي تعرض للانقسام السياسي و التجزؤ، بفعل الأزمات الاقتصادية الخانقة التي عرفتها دوله خلال السنوات الأخيرة، مما عجل بسقوطه و تفكك كتلته السياسية و الاقتصادية و الإيديولوجية، في المقابل نجدان المعسكر الغربي و الرأسمالي يعتبر هذا التفكك و الانهيار انتصارا له و لأيديولوجيته السياسية و الاقتصادية. و من ثم انطلق الحديث داخل أوساطه الفكرية، حول انتصار النموذج الغربي الليبرالي و أنه النموذج السياسي و الاقتصادي الأخير و الأفضل الذي وصل إليه تطور البشرية، و أن على الدول التي كانت تقف البارحة منه موقف المعارض و الرافض، عليها أن تسرع لركوب قطاره و سلوك طريقه، و بدأ الحديث عن القطب الواحد الذي يتحكم في تسيـــير دواليب الاقــتصاد العالمي، حيث العمل على قدم و ساق لتحرير الأسواق العالمية و إلغاء الحواجز الجمركية بين الدول لاستقبال السلع. يرافق ذلك دعاية واسعة النطاق للترويج لقضايا حقوق الإنسان و الديمقراطية، و ضرورة تبني الإيديولوجية الليبرالية جملة و تفصيلا.
و هكذا فبين عشية و ضحاها بدأت عناصر الإيديولوجية الغربية الليبرالية تعرف طريقها نحو أوسع انتشار تعرفه عبر العالم، مستفيدة من قوتها الاقتصادية و العسكرية التي تمتلكها بالدرجة الأولى و مستغلة وسائل الإعلام المتطورة جدا للتسويق و التبشير بهذه الإيديولوجية و فعلا فقد بدأ الحديث عن العولمة الاقتصادية كظاهرة ملموسة، تتبلور كل يوم لتشمل جميع القطاعات الاقتصادية داخل العالم الثالث، فليس هناك الآن حديث إلا عن الخصخصة، و تقليص دور الدولة في تسيير الاقتصاد الوطني، و تحرير الأسواق المحلية و فتحها أمام الإنتاج العالمي، و ربطها بالتالي بعجلة الاقتصاد العالمي الذي تتحكم فيه بالطبع الشركات العابرة للقارات و المؤسسات المالية و التمويلية الغربية العملاقة. و عليه يمكن أن نقول بأن العالم في طريقه ليصبح سوقا واحدة مفتوحة على جميع الأسواق و الاقتصاديات تتحكم فيه إلى جانب رؤوس الأموال الغربية، قوانين الاقتصاد الليبرالي المعمول بها في الغرب بشقيه الأوربي و الأمريكي. و بالتالي بدأ الحديث عن العولمة كظاهرة جديدة برزت على السطح. فانطلقت الأقلام و عقدت المؤتمرات و الندوات لعلاجها و مناقشة أبعادها و تداعياتها الايجابية و السلبية، ليس فقط على المستويين الاقتصادي و السياسي و إنما على المستوى الثقافي. لان العولمة الثقافية بالخصوص بدت و كأنها كاسحة ستجرف و ستقضي على جميع الخصوصيات الحضارية لجميع الشعوب غير الغربية. بل إن شعوبا أوربية شعرت بمخاطر هذه العولمة لأنها في حقيقة الأمر، عولمة تحمل في طياتها مشروعا لأمركة العالم. لان القيم النفسية و السلوكية و العقائدية الأمريكية هي المهيمنة على هذه العولمة الثقافية. فالولايات المتحدة الأمريكية تهيمن و تمتلك النخبة الأكبر من وسائل الإعلام العالمية، و بالتالي فهيمنتها ليست اقتصادية فحسب و إنما ثقافية كذلك، و هذا أخطر ما في هذه العولمة أو الأمركة. لان الذوق و السلوك و العرف الأمريكي، سيعرف طريقه نحو العالمية، مشكلا ضغطا و تحديا لباقي الأذواق و السلوكيات و الأعراف التي تشكل بالإضافة إلى الأديان و العقائد المنظومة المتكاملة للخصوصية الحضارية لباقي الشعوب في العالم.
و بما أن أجهزة الاستقبال و التقاط البث الإذاعي و التلفزيوني الفضائي قد استطاعت في الآونة الأخيرة الدخول إلى مجمل المنازل و البيوت، بسبب انتشارها و كثافة تسويقها العالمي و رخصها كذلك، فإن المادة الإعلامية الغربية و الأمريكية بدأت فعلا تصل إلى المتلقي في العالمين العربي و الإسلامي دون حواجز تذكر. بل بسهولة و يسر، و هذا ما جعل الحديث عن الاختراق الثقافي يحل محل الحديث السابق عن الغزو الثقافي، لأن وسائل مقاومة الغزو كانت متيسرة و أكثر فاعلية. بحيث كان بمقدور المؤسسات الحكومية و الأهلية أن تقاوم هذا الغزو أو تقف في وجهه أو على الأقل تخفف من آثاره السلبية، كما كان بإمكانها في بعض المجالات أن تصد هذا الغزو. إلا أن الوضع الآن قد اختلف كثيرا. فلم يعد بإمكان المؤسسات الحكومية أو الأهلية أن تقوم بالدور نفسه. و مما يزيد الوضع خطورة، ارتباط هذا الاختراق أو العولمة الثقافية بتبني الخيارات الاقتصادية و السياسية الغربية. و مما لا شك فيه أن وسائل الإعلام الغربية و الأمريكية تؤكد على ترابط هذه الخيارات في المجالين الاقتصادي و السياسي مع ما تروج له من قيم ثقافية و سلوكيات و أنماط عيش غربية، و أذواق في الملبس و المأكل وصولا إلى صياغة تفاصيل الحياة اليومية و كل ما يتعلق بها من شؤون تخص الفرد أو الأسرة أو المجتمع.
و هنا تكمن الخطورة فعلا، لان وسائل الإعلام و خصوصا الإنتاج السينمائي الهوليودي يسعى بجد و قوة لنشر و ترويج قيم المنافسة و تمجيد القوة، و التأكيد على الفردانية، و نشر ثقافة الاستهلاك، و الدعوة إلى تحرير الرغبة الإنسانية من كل القيود، و إبعاد كل ما هو غيبي عن حياة الإنسان. و بالتالي تقدم للإنسان أهدافا جديدة، تتمحور حول السعي الحثيث لتحقيق الرغبات الشخصية دون اعتبار لقيم الحق أو العدل كما بشرت بها الأديان.
و بما أن هذه المادة الإعلامية بدأت تطرق باب الإنسان و تشاركه خلواته دون رقابة أو تمحيص، فإن آثارها المدمرة قد بدأت تظهر و تنتشر داخل الأوساط الاجتماعية فعلا. فظواهر التفسخ الأخلاقي و التفكك الأسري، و ظهور جرائم لم يكن المجتمع العربي و الإسلامي يعرفها و غيرها من الظواهر الغربية، دليل على أن هذا الاختراق بدأ يؤتي أكله.
و بما أن الإجراءات لوقف هذا الاختراق أو مواجهته، أكثر صعوبة و أشد تعقيدا، فإن المادة الإعلامية و الثقافية الغربية لا تجد لحد الآن صعوبة للوصول إلى عقل المتلقي في العالمين العربي و الإسلامي و قد بدأت فعلا صياغة الأذواق و الاهتمامات و الأهداف، و بالتالي فنحن أمام عولمة أو أمركة حقيقية في طريقها للتوسع و التغلغل و الانتشار، و لا أحد يعرف إلى أين ستصل، و ما هو الحجم الحقيقي الذي ستأخذه تداعياتها السلبية على الهوية الحضارية للأمة العربية و الإسلامية.
=========
العولمة الثقافية : و : الهوية
من المعروف أن مشكل الهوية، كان قد طرح للمناقشة و التداول و المعالجة مع بدايات الاحتكاك بين الحضارتين الغربية و العربية الإسلامية، خصوصا بعد شمول السيطرة العسكرية الغربية على العالمين العربي و الإسلامي، لان الغرب شرع في نشر لغته و نموذجه الحضاري داخل الأوساط الاجتماعية مستغلا الضعف الذي كانت الثقافة العربية و الإسلامية تعاني منه، فعمل الاستعمار الغربي على زيادة تهميش عناصر الثقافة العربية و الإسلامية، و أهمها اللغة العربية كأداة فاعلة لنقل الثقافة و المحافظة عليها، باعتبارها الوسيلة الوحيدة للارتباط بالموروث الثقافي للأجداد، هذا الموروث الذي كان و ما يزال يغذي و يعمق إمكانات التحدي و البقاء، و يمكن من الاستمرارية و يقاوم الذوبان الحضاري.
لذلك فمن بين أهم الشعارات التي رفعت في وجه الاستعمار و ساعدت بشكل حاسم في إخراجه و تحقيق الاستقلال، كان شعار، الدفاع عن الهوية.
ثم مع الغزو الثقافي المنظم، لم يتوقف الحديث عن الهوية التي يجب أن تحصن أمام هذا الغزو، و عليه فخلال المائة سنة الماضية تقريبا و إلى الآن، لم يتوقف الحديث عن الهوية التي تتعرض لمخاطر الغزو و الاحتكاك و من ثم خطر الذوبان.
لكن ما يلاحظ هو أن معالجة هذا الموضوع قد تطورت بشكل ملفت، لان مجموعة من التداعيات كانت قد استوعبت بطريقة ايجابية، و ذلك لان المفكر العربي و الإسلامي تعامل معها على أنها لا تمس جوهر الهوية، و إنما هي عناصر تتعلق بالجانب المتحول في حضارتنا و قيمنا و أعرافنا، و بالتالي فأي تأثير عليها سواء بالتطور أو الإلغاء و النسخ ليست له مدخليه حقيقية في العناصر الأساسية المكونة لهويتنا العربية و الإسلامية.
و قد دعم هذا الاتجاه ضعف تماسك عدد من العناصر التي تروج لها الثقافة الغربية، باعتبارها غير عقلانية أو مناوئة لقيم دينية راسخة و سليمة و منسجمة مع الفطرة الإنسانية، لذلك لم تجد الثقافة العربية و الإسلامية صعوبة علمية و عملية في نقد هذه العناصر و الكشف عن تهافتها و الرد عليها بشكل مقنع و مؤثر، و قد استوعبت قطاعات واسعة من الأمة (نخبا و عوام) هذه الردود و اعتقدت في موضوعيّتها و قوتها، مما جعل تلك العناصر الثقافية الغربية (كالإلحاد مثلا) تتراجع و ينحسر انتشارها بشكل كبير، بل أن موجات مناهضة للثقافة الغربية شكلا و مضمونا قد عرفت طريقها نحو الانتشار الواسع داخل الأوساط الثقافية و الاجتماعية بشكل عام، و من ثم تعززت مكونات الهوية في الوقت الذي تصاعدت فيه موجات الدعاية للثقافة الغربية.
و من المظاهر التي سجلت و أُرخ لها كظاهرة ميزت العقود الثلاث الماضية، ظاهرة المد الإسلامي أو الأصولية كما يسميها الإعلام الغربي، التي انتقد دعاتها بشدة الحضارة الغربية و حملوا على ثقافتها و قيمها و دعوا إلى رفضها و مقاومتها و التشبث بالقيم العربية و الإسلامية و العناية بالموروث ألقيمي الحضاري لأمتنا. و قد لاقت هذه الدعوات استجابة عريضة داخل الأوساط الاجتماعية و النخب الثقافية بدرجات متفاوتة.
وقد اعتبر انتشار هذا المد الصحوي الإسلامي بمثابة رد فعل طبيعي على عقود من التغريب ومحاولة اللحاق و الإستتباع الحضاري الذي حاولت بعض النخب السياسية التابعة ثقافيا للغرب أن تفرضه. كما اعتبر دليلا على فشل مشاريع التحديث الثقافي التي مست الهوية في عدد من عناصرها و التي كانت تستمد مكوناتها الأيديولوجية من الحداثة الغربية و تتغذى من إنتاجها الثقافي.
و مما لا شك فيه أن ظاهرة الصحوة الإسلامية قد عززت مفهوم الهوية الحضارية و عمقته و كشفت عن إمكانات ضخمة تختزنها ذاكرة الأمة الثقافية و وجدانها الداخلي. و أن الضربات المتتالية التي تعرضت لها هذه الهوية لم تكن قاتلة، بل ساعدت على نفض الغبار عنها و تفعيل عناصرها و تزر يقها بدماء و حيوية جديدة.
و قد سجل كذلك تراجع لعدد من رموز النخب التي كانت تجعل من نفسها وسائط لنقل الثقافة الغربية، بل أصبحت مجموعة منهم من الدعاة لرفض الثقافة الغربية و مقاومتها و التشبث بعناصر الهوية العربية و الإسلامية.
و إذا كانت هذه الظاهرة الصحوية الداعية إلى التشبث بالهوية و إحيائها، قد كشفت من مواقف متطرفة، تدعوا للانغلاق و رفض الآخر بشكل نهائي و قاطع، فإن مواقف أكثر نضجا و فهما للصراع الحضاري و للموقف الحرج الذي تعاني منه الأمة العربية و الإسلامية ليس على المستوى الثقافي فحسب و لكن على المستوى الحضاري العام، كانت قد تبلورت، لأنها و انطلاقا من موضوعية المعالجة شعرت بضرورة التثقف و الانفتاح على الآخر، لكن بشروط من أهمها تفعيل عناصر الثقافة العربية و الإسلامية، و تنشيطها و الكشف عن خصائصها و مميزاتها، و محاولة تقديمها بحلل جديدة لائقة، تستطيع أن تقاوم و تنافس بل و تنتصر في نهاية المطاف و عدم الخلط بين الثابت و المتحول في ثقافتنا.
كما أن النقد الموجه للحضارة و الثقافة الغربية كان أكثر عقلانية و موضوعية، يميز بين ما هو إنساني عام و ما هو خصوصية أنجبتها رحم ظروف التطور التاريخي و الاجتماعي و الاقتصادي الذي عرفته المجتمعات الغربية. لذلك اتسمت هذه الانتقادات بالعمق و تبنتها شرائح واسعة من المثقفين على اختلاف مشاربهم و توجهاتهم الأيديولوجية.
فإذن الحديث عن الهوية العربية و الإسلامية و التحديات التي تواجهها من طرف الحضارة الغربية ليس وليد بروز ظاهرة العولمة الثقافية، و إنما يرجع كما أسلفنا القول إلى بداية الاحتكاك العسكري و الثقافي مع هذه الحضارة قبل قرنين من الزمان تقريبا، و قد عرف هذا الاحتكاك تطورا اتسم بالمد و الجزر، بالاستجابة الايجابية حينا و بالتصادم و العدوان حينا آخر. لكن ما يميز ظاهرة العولمة هو كون التحديات الآن أخرت بعدا آخر، أكثر شمولية و خطورة، لان الثقافة الغربية امتلكت الآن الوسائل و الأدوات القادرة على الوصول إلى عقل الإنسان العربي و المسلم بشكل دائم و مستمر، و قد امتزجت و تداخلت مع عدد كبير من المجالات الاقتصادية و السياسية و العلمية، لذلك فقدرتها على التأثير أصبحت مضاعفة و غير محدودة.
و أمام الإخفاقات التي تعاني منها مجالات الثقافة و الاقتصاد و السياسة داخل العالمين العربي و الإسلامي، فإن أرضية التأثير و الاستيعاب أصبحت مهيأة أكثر لاستقبال موجات الثقافة الغربية و هي تدعو و تنشر قيمها باعتبارها قيما إنسانية متقدمة. جاءت نتيجة قرون من تراكم الخبرات و التجارب الإنسانية في أكثر من مجال و على أكثر من صعيد.
هذا الوضع الجديد الذي وصل إليه الاحتكاك الذي أخذ طابع الصراع في أكثر الأحيان، و الإمكانات التقنية الهائلة التي تملكها الثقافة الغربية، و الوضع المزري الذي يتخبط فيه العالم العربي و الإسلامي، هو الذي يؤرق النخب المثقفة العربية و الإسلامية، و يجعلهم يتوجسون خيفة من العولمة الثقافية، أكثر بكثير من خوفهم من الغزو الثقافي الذي عالجوه و ناقشوا تداعياته من قبل.
فهذه العولمة شاملة و ليست ثقافية فقط، و إنما اقتصادية و سياسية، و هذان العنصران يدعمان الثقافة بشكل كبير، لأنها بدورها تساعدهما على التجدر و التعمق باعتبارهما خيارات حضارية تستجيب لحتمية التطور. و هذا يشكل تحديا خطيرا للهوية العربية و الإسلامية لم يسبق لها أن تعرضت له بنفس الحجم و القوة و الخطورة.
لذلك نجد أن النخب المثقفة العربية و الإسلامية هرعت لمناقشة ظاهرة العولمة الجديدة، لمعالجتها و الكشف عن أخطارها على جميع المستويات الاقتصادية و السياسية و الثقافية و قد عقدت أكثر من ندوة و مؤتمر لمناقشة هذه الظاهرة، كما خصصت مجموعة من الدوريات المتخصصة بشؤون الفكر و الثقافة ملفات لمناقشة تداعيات العولمة و التعريف بها.
و كتب الكثير حولها من طرف المفكرين و المثقفين. سنحاول تتبع آراء مجموعة من المفكرين العرب و الإسلاميين حول الآثار السلبية للعولمة الثقافية على الهوية العربية و الإسلامية، و ما هي الوسائل التي يقترحونها للحد من تأثير التداعيات المدمرة لهذه الظاهرة الخطيرة التي تعتبر من أهم و أخطر التحديات التي تواجهها الأمة العربية و الإسلامية الآن.

(سمير حجازي) 7 نيسان 2010



« return.