اترك والدي لوحده في المنزل ونغادر نحن الشباب خوفا من الموت أو الاعتقال ,يموت هو لنحيا نحن .. لم يكن لنا خيار وجواب سوى إما أن نبقى جميعا أو نرحل جميعا .. نموت مع بعضنا أو نحيا مع بعضنا, ولا نعرف أي مصير ينتظرنا ..
أنا خائف على والدي من الموت ووالدي خائف علينا من الموت, وفى النهاية بعد ضغط من فريق الصليب الأحمر وضغط بعض جيراننا والإصرار على أن نبقى أحياء لنكمل مسيرة النضال ضد الاحتلال ,قررنا ترك المنزل وذهبنا إلى مستشفى قريب في المنطقة, فوجدنا المئات من العائلات التي تركت منازلها داخل المستشفى, من أطفال – شيوخ – نساء – شباب, كلهم رافضين للموت ومصرين على الحياة ,تركوا منازلهم ليس خوفا من جيش الاحتلال أو خوفا من الموت ,ولكن إصرارا على يستمروا في الحياة ,منهم الطبيب يريد العيش لعلاج الجرحى, والمهندس للمساهمة في اعمار غزة, والصحفي لنشر فضائح الاحتلال ,وأنا لأكتب ثانية عما يحدث في غزة .
وبعد فترة قليلة ابلغنا الصليب على انه تم التنسيق لمغادرة المنطقة إلى منطقة أخرى أمنة, وقف المئات من السكان في الشارع ,أمامنا سيارة للصليب وخلفنا سيارة إسعاف, أناس يحملون أبنائهم الصغار على أكتافهم ولا يحملون إلا حياة وإصرار البقاء, وأناس خرجوا بملابس النوم لأنهم لم يستطيعوا تبديل ملابسهم, وأناس آخرين انهالت دموعهم حيرة بين الإصرار على الحياة وعدم الموت وإصرار على عدم ترك المنزل فماذا يفعل ؟؟؟
وبدأت المسيرة مشيا على الأقدام, نتجول في إحدى شوارع غزة التي اختلفت معالمها, تخاف من قصف المدافع في أي لحظة وأولادك حولك يبكون ولا يعملون ماذا يحدث ؟؟ ونحن في الطريق ,سألني احد الأطفال الصغار: ما هذا المكان المدمر الذي بجانبنا, أي مكان هذا الذي أصبح ركام ,فنظرت إليه وسكت... وبعدها أجبته: إنها الحديقة التي كنت تلعب فيها, فسألني: أين الألعاب, فقلت له: تكسرت جميعا ,لم يعرف كيف يرد عليا وما الذي حدث للحديقة ,فبكى...
مشينا ومشينا حتى وصلنا إلى مدرسة تابعة لوكالة الغوث الاونروا ,بقى من بقى فيها والباقي ذهب إلى أقارب له كما فعلنا نحن .
وصلنا إلى بيت احد أقربائنا في المنطقة الآمنة إلى حد ما, وروينا ما حدث معنا بالتفصيل لهم, واتصلنا بوالدتي التي مازلت خارج البلاد في إحدى الدول العربية منذ أكثر من ثلاثة أشهر لزيارة أهلها, ولم تستطع العودة بسبب الحصار الظالم على غزة وإغلاق معبر رفح الحدودي مع مصر, ما إن رفعت السماعة وعلمت أننا المتصلينإحتى انهالت دموعها وبكت كثيرا كثيرا, لم تصدق أننا ما زلنا على قيد الحياة ولم تصدق إلا عندما سمعت صوتنا جميعا, لأنها كانت تتابع لحظة بلحظة على التلفاز وماذا يحدث, فطمأنت ولو قليلا علينا ,لأنها لا تعرف أي مصير ينتظرنا .
أكملنا ما تبقى من يومنا عند أقربائنا وحاولنا النوم في الليل على أمل يوم جديد يأتي في الصباح .ومع بزوغ الصباح الجديد حاولنا الاتصال لنعرف ماذا حدث في منطقنا في حارتنا, فعلمنا أن السكان عادوا إلى المنطقة ,وسرعان ما عدنا للاطمئنان على البيت ,على الجيران, على الأصحاب, وما أن دخلنا المنطقة إلا وكانت الصرعة ..
شقق محطمة ومحروقة بالكامل, سيارات أصبحت كسجادة على الأرض, طرق مدمرة ,تدمير لمحطات توليد الكهرباء في المنطقة, لا اعرف ماذا اصف ,مفاجأة مما حدث ؟؟
أهذه حارتنا ؟؟ أهذه منطقتنا ؟؟ ماذا حدث ؟؟ زلزال ؟؟ بركان ؟؟ هاج البحر علينا ؟؟
دمار بشكل كامل .. ركام على الأرض ...ودخان يغطى السماء ....