by Adel Gana | |
Published on: Apr 27, 2008 | |
Topic: | |
Type: Opinions | |
https://www.tigweb.org/express/panorama/article.html?ContentID=20085 | |
لخص الفيلسوف زكي نجيب محمود في كتابه "خرافة الميتافيزيقا" تصنيف مدرسة الوضعية المنطقية لما تحتويه قواميس اللغة من كلمات إلى صنفين، صنف له معنى وهو ما يشير إلى وجود موضوعي مثل كلمة تفاحة أو بيت.. إلخ, وصنف آخر من الكلمات يتوفر في القاموس، ولكنه لا يشير إلى أي شيء له وجود في الواقع، مثل العنقاء أو الغول.. إلخ. وتقترح هذه المدرسة تنقية القواميس من مثل هذه الكلمات باعتبارها فارغة من المعنى، وعلى ما في هذا المنحى من التفكير من صرامة، لا سيما إذا دفعه تطرف مادي إلى حدوده القصوى، يبقى حاملا لقدر غير قليل من الجدوى في التعامل مع مختلف الخطابات لتمييز ما تتوفر عليه من مضامين جادة تستحق التعامل الجاد معها بالقبول أو الرفض، من الخطابات العابثة الخاوية من كل مصداق. ولو أننا أعملنا بجد هذا المنطق في فحص الخطاب الرسمي السائد في دول العرب خاصة تلك التي تفتخر نخبتها بالانتساب إلى عالم الحداثة مثل مصر وتونس، وبالتحديد في المجال السياسي وهو المجال الحاكم على غيره والمحدد لمآلاته نجاحا أو فشلا كليا أو غالبا، لأمكن لنا الوقوف على مقدار ما يتوفر عليه خطاب السلطة العربية وجزء غير قليل من المعارضة من مصاديق ذات معنى في الواقع الفعلي فيحتفظ به، ليناقش قبولا أو رفضا، تمييزا له من الكلام الذي لا يشير إلى مدلول في الواقع فيستغنى عنه. وتأتي أهمية فحص مدلولات خطاب السلطة السياسية هنا باعتبارها تمثل الإطار الضروري لإصلاح كل ما يراد إصلاحه من شؤون الجماعة، ارتقاء من مستوى الفساد والفوضى والظلم إلى مستوى تكون فيه الجماعة أقرب إلى الصلاح، وتلك غاية السياسة كما هو في المأثور العربي. وفي الأدبيات المعاصرة يتم التركيز أكثر في ممارسة السياسة على اعتبارها وعاء ضروريا للحقوق والحريات وما توفره من فرص لنقل الصراع بين مجموعات النخب داخل الجماعة السياسية أو الأمة، من المستوى العنيف سبيلا لتحقيق الذات وفض المنازعات إلى مستوى الصراع الرمزي السلمي، عبر وسائط التدافع والمجادلة عرضا للبرامج على الجماهير من أجل ضمان ولائها واستقطاب أصواتها، استعدادا ليوم العرض على صناديق الاقتراع حيث يتم الفرز وصعود فريق من النخبة ونزول آخر، حسب ما اتفقت عليه جماعات النخبة من قواعد اللعب دون أن يفرضها صاحب السلطة على منافسيه لمصلحته كما هو حال السلطة العربية اليوم. وعندما يعجز فريق واحد عن الحصول على أغلبية تمكنه من تشكيل حكومة بمفرده يجده مضطرا للدخول في مفاوضات بحثا عن وفاقات مع مجموعات مشابهة لتشكيل ائتلاف حكومي. وهكذا يستمر داخل كل حزب وفيما بين الأحزاب كما هو داخل كل جمعية أو نقابة وفيما بينها، الحوار والتدافع السلمي الفردي والجماعي والتفاوض، بحثا عن الوفاق، عن الأرضية والقواسم المشتركة، ما يعد جوهر السياسة حيث يندر الانتصار الساحق بالضربة القاضية لصالح فريق، ما يجعل عملية التفاوض بحثا عن الوفاق عملية مستمرة في المجتمع السياسي الديمقراطي، على اعتبار الديمقراطية اليوم تمثل أفضل ما توصل إليه العقل البشري من آليات تضمن للقرار الذي يخص المجموع ألا ينفرد به شخص أو أقلية للتعبير بأفضل ما هو ممكن عن مصلحة المجموع، وتلك هي غاية الشورى عنوان الحكم الإسلامي كما أوضح ذلك الشيخ محمد عبده. كما يضمن البحث عن الوفاق استمرار الحراك السياسي والاجتماعي داخل جماعات النخبة تداولا بينها للسلطة وليس للقمع كما هو حال التداول في الأنظمة الدكتاتورية السائدة في الوطن العربي. ولو أننا رمنا تحديد الاتجاه الذي تتطور إليه هذه النظم المتحكمة في رقاب شعوبنا منذ نصف قرن يزيد لألفيناها تغذ السير في الاتجاه المعاكس لحركة ساعة العصر فتزداد، مع اشتداد المطالبة الخارجية والداخلية لها بالإصلاح والانفتاح والمشاركة، رعبا من هذه المطالب واستعدادا لمقايضة مطالب الخارج بمزيد التفويت لصالحه في ما تبقى من مقومات الاستقلال على صعيد الاقتصاد والأمن والاستجابة لمطالب المشروع الصهيوني، وذلك مقابل تصعيد وتيرة التشدد في التعامل مع مطالب الداخل عتوا وتعويلا أكثر فأكثر على وسائل العنف والغش قضاء على نزر السياسة المتبقي. وبلغ خلط الألوان في هذه الأنظمة حدا يعسر معه تصنيفها ضمن الأنظمة المعاصرة، فعلى حين أن محتواها امتداد لأسوأ أنظمة الإطلاق تحرص على استعارة الأصباغ من الديمقراطية المعاصرة فتتوفر على "أحزاب" و"انتخابات" و"برلمان منتخب" "ودستور" "يفصل بين السلطات" و"مؤسسة قضائية" و"مجلس دستوري" و"صحف" و"مؤسسات مجتمع مدني"!! حتى أن الألصق منها بشعارات الحداثة مثل تونس ومصر لا يكاد يغادر مفردا في القاموس الديمقراطي إلا حرص على استعماله. غير أننا لو بذلنا قدرا ولو قليلا من التدقيق في ما وراء هذه الأصباغ الديمقراطية لرأينا شيئا عجبا، دستورا يركز كل السلطات في يد الرئيس/الملك، هو الذي يعين الوزراء ويزكي أعضاء البرلمان باعتبارهم من حزبه، وهو الذي يضع من القوانين ويسن من السياسات ما يشاء لتحظى بالمباركة. وهو نفسه الذي يشرف على مجلس القضاء الأعلى بما يجعل كل القضاة مجرد موظفين عنده كما يعين أعضاء المجلس الدستوري. والدساتير هنا وخلافا لما عليه الأمر في النظم الدستورية الجادة طيعة جدا لأهواء الرئيس تكاد تسابق فصول السنة في تغيرها عبر إجماع برلماني سريع أو استفتاء شعبي مضمون من أجل ضمان رئاسة مؤبدة وحصانة من أي مؤاخذة عن جريرة خلال مباشرته للسلطة أو بعدها. وإذا اشتدت المؤاخذة لقوانين الطوارئ بادر السلطان إلى استبدالها بقوانين الإرهاب، ويزداد الأمر جلاء وتتساقط أصباغ الديمقراطية إذا نحن ألقينا نظرة على الأثر الواقعي لهذه البنية الدستورية وبالخصوص في مجال الحقوق والحريات نرى عجبا. في البلاد صحف كثيرة وقنوات إذاعية وتلفزية وسبق مشهود في الربط مع شبكة الإنترنت، ولكنها تنويعات شكلية تردد نفس اللحن وكل من سولت له نفسه الخروج قليلا عن نفس المقام تعرض للقمع، حتى فازت تونس ومصر بأطول وأكثر تقارير المنظمات الإنسانية المنشغلة بحقوق الإنسان، وأفردت تونس بقصب السبق في قيامها بأول محاكمة بل بأكثر من محاكمة للشباب الهاوي للإنترنت. وليس حال بقية الحقوق والحريات بأقل سوء مثل حرية تكوين الجمعيات والأحزاب، فقد تسبب غياب هذه الحرية في سلسلة من المحاكمات لم تنقطع منذ الاستقلال، بل تفاقم ضحاياها حتى عدوا بعشرات الآلاف وتعرضوا وعوائلهم لمخططات استئصال وتنكيل بلغ حد التصفية الجسدية والاغتصاب رجالا ونساء إسلاميين وغيرهم. أما الانتخابات فباعتبارها أهم آلية للحراك السياسي وتداول النخب والفرز بينها فهي هنا لم تتجاوز يوما كونها مجرد بيعات إكراهية لا يرتاب حتى القائمون بها في زيفها الكامل. وتبلغ هنا الصفاقة السياسية الأوج أمام مشهد الإعلان الذي لم يتخلف منذ "الاستقلال" من قبل "رب البلاد"، عن فوزه بنسبة ثابتة، تسعات أربع يعجز عنها حتى الأنبياء والأبطال التاريخيون. الملك هنا يبدو على حقيقته ديكتاتورا منقطع الصلة بالشعب، لا انتماء له لهذا العصر ولا صلة له بعالم الحداثة الذي لا يني يصر على استمداد شرعيته منه. والأغرب من ذلك أن يجد طائفة واسعة من المنتسبين لعالم الفكر و"الحداثة" تصدقه، بما يجعلنا لسنا إزاء نظام سياسي أو أيديولوجي محدد واضح ديمقراطي أو علماني أو إسلامي بل إزاء دولة القهر والنفاق وغياب المصداق. كيف تمكنت؟ مسؤولية من؟.. الاستبداد لا ينشأ إلا جزءا من معادلة وثمرة لها، فما عناصر المعادلة التي أثمرت هذه الدولة المستبدة التي راهنت على ابتلاع المجتمع وقهره واحتقرته، وسخرت كل قواها من أجل تفكيك مؤسساته وقيمه وسائر دفاعاته من أجل فرض الاستسلام عليه لمبضع الجراح "الحداثي" وترسيخ الاستبداد وإعادة إنتاجه؟ من المرتكزات الرئيسية للاستبداد الإرث الاستعماري الذي ربى على عينه ويده طائفة ثقافية اصطفاها لنفسه وفصلها فكريا وشعوريا وخلقيا ومصلحيا عن قومها من "السكان الأصليين"، حتى إذا ثار هؤلاء مطالبين باستقلالهم كانت تلك الطائفة الأقدر على الاتصال بالمستعمر والتفاوض معه. وفي ظل الوعي الثقافي المحدود لدى جمهرة الثائرين لم يكن عسيرا التلبيس عليهم ومسايرتهم في ما يعتقدون، حتى إذا تمكنت بدعم من جيش الاحتلال وإدارته القديمة تم إغلاق قوس الثورة على المستعمر والتعبئة ضده ليستأنف التواصل مع إرثه ومخططاته. وهو ما جعل الحكم هنا امتدادا طبيعيا لنوعين من الإرث، الإرث الاستعماري في احتقاره للسكان الأصليين ومراهنته على تفكيك هويتهم وإعادة تشكيلها وفق المنظور الاستعماري. - أما الإرث الثاني فهو الإرث السلطاني القائم على مبدأ الحكم شبه المطلق الذي استهدفت الحركة الإصلاحية منذ القرن التاسع عشر وضع حد له من أجل تأسيس حكم حديث على أرضية إسلامية، وهو المشروع الذي كان يمكن أن ينقذ هذه البلاد من مصيبة الاحتلال لولا تدخل القوى الخارجية الطامعة في دفع الأمور إلى الانهيار حتى تجد مسوغا لوقوع البلاد في قبضتها فشجعت ولا تزال الفئات المفسدة. إننا إزاء إرث الدولة السلطانية في أتعس أيامها وقد تزاوجت مع إرث دولة الاحتلال وما وضعته الحداثة التقنية والإدارية تحت تصرفها من أدوات وفرص وإمكانات للرصد والتأطير والقمع والقهر والاستخفاف بالوعي العام وفرض استلحاق بلادنا بسياق حضاري وإستراتيجي وقيمي غير سياقها الطبيعي. - العامل الخارجي: منذ زهاء قرنين مالت بشكل سافر موازين القوة الدولية لصالح القوى الغربية فتوالت الحملات على أمتنا عسكرية واقتصادية وثقافية لا تكاد تتراجع تحت ضغط المقاومة حتى تليها أخرى. ورغم أن الأمة لم تستسلم بل والت المقاومة ونجحت في أكثر من جبهة في رد عساكرهم وفي الانتصار للشخصية الإسلامية العربية فذلك لم يغير كثيرا من الوضع العام في ساحة الصراع بين قوى مهاجمة توالي هجوماتها وقوى في الدفاع تقاوم لا تقبل باليأس والاستسلام، وهي الحالة التي لا يزال عليها المشهد العام للعلاقة بين الأمة وأعدائها بما مثل أكبر عائق في طريق حركة التحول الديمقراطي في بلاد العرب والمسلمين. إن تجاهل هذه الإعاقة الكبرى لحركات التغيير وهذه الركيزة المهمة المستمرة في تقديم الدعم لأشد الأنظمة قمعا وفسادا وتأخر منطقتنا عن المسار الكوني العام للتحولات الديمقراطية يجعلنا غير قادرين على تفسير بطء حركة التاريخ في هذه المنطقة، بما يحمل البعض على اليأس أو على الإسراف في جلد الذات، مع أن الاتجاه العام يتطور لصالح الأمة وإن بأكلاف باهظة. - غير أن ذلك لا يصرفنا عن تفحص الإعاقات الداخلية لحركة التحول الديمقراطي والتخلص من مصيبة الاستبداد، ومنها تفشي أقدار غير قليلة من أخلاق الانتهاز في صفوف قطاعات واسعة من النخبة المتعلمة ذات النفوذ الثقافي بما فيها تلك التي أمضت شبابها مناضلة في الجامعة والنقابات والأحزاب السرية وتعرضت لسوط الطغيان وعانت من سجونه وقهره ثائرة على مستويات من الاستغلال الرأسمالي للبلاد وللجماهير تعتبر بدائية بالقياس إلى ما هو قائم اليوم من سياسات النهب. واليوم يتزاحم مئات إن لم يكن آلاف من تلك "النخبة" على مائدة وكلاء النهب الرأسمالي واضعين تاريخهم وخبرتهم وعلومهم تحت تصرفهم بما في ذلك أجهزة القمع البوليسي والإعلامي، يقدمون لها الدراسات العلمية وخطط تجفيف ينابيع ما سموه الحركة الأصولية وأساليب غسل الأمخاخ وتقديم الغطاء الأيديولوجي والإعلامي والثقافي لخطط القمع. وفي هذا الصدد فإن المرء لا يمكنه أن ينساق إلى تعميم باطل مضر في تجاهل ظالم للمواقف الأخلاقية الشجاعة لقطاعات من النخبة العلمانية الجادة جديرة بالتنويه في ثباتها على جادة المبادئ الديمقراطية، بما يشهد أن الخير في أمتنا وشعوبنا غير قليل بل هو في ازدياد. ومما هو جدير بالتوضيح في هذا الصدد: - أن الحركة الإسلامية -رغم جراحاتها العميقة باعتبارها المستهدف الأكبر للضربات بسبب أنها العقبة الأشد في طريق مخططات احتواء أمتنا وتمزيقها- قد رفضت ولا تزال ترفض تأسيس عملها المعارض على أساس الثأر والحقد بل هي ظلت تكظم غيظها وتداري آلامها وتؤكد باستمرار حرصها على المصالحات الداخلية، وعلى التواصل داخل أمتنا والحوار والبحث عن المشترك وعن الإجماع حول قضايا الأمة الكبرى، مثل الوحدة وطرد الاحتلال واحترام حقوق الإنسان والالتزام بمقتضيات النظام الديمقراطي بمنأى عن كل ضروب الإقصاء حرصا على الوحدة الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية. ومن ذلك سعيها إلى العمل المشترك حتى مع أشد مخالفيها ممن سبقت معهم خصومات مثل التيارات القومية واليسارية والليبرالية، فقد جمعتهم التحديات التي تواجه الأمة مع القوميين -مثل مؤسسة المؤتمر القومي الإسلامي- ومؤسسة الأحزاب العربية, لكفاح مشترك ضد مشاريع الهيمنة في الخارج والاستبداد في الداخل. وعلى الصعيد القطري انعقدت وفاقات وقامت أعمال مشتركة ضد الاستبداد في مصر وتونس واليمن والأردن والكويت وفلسطين.. خطوات مهمة جادة على الطريق الصحيح لتشكيل الكتلة الوطنية التي تفرض عملية التحول الديمقراطي المتعثرة. الثابت من تجارب التاريخ أن أنظمة الحكم لا تنهار حتى تتساقط عن الملك كل أوراق التوت ويستعيد قاموس السياسة مدلولاته، فيعاد للغة اعتبارها، فيقال للظالم يا ظالم، مصداقا للإرشاد النبوي الكريم "إذا تهيّبت أمتي أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها". وإن إمعان الأنظمة القائمة في إفراغ السياسة من المعنى مثل تنظيمها انتخابات واستفتاءات لا تشبه في شيء روح العصر ومطالب الشعب، مؤشر آخر قوي على تأكد انفصالها عن حركة التاريخ وعلى ارتحاله بعيدا عنها، وكأن صوتا من بعيد يؤذن بالرحيل حسب التعبير الخلدوني، فهل تفقه ذلك قوى الشباب والتجدد قوى المستقبل؟ « return. |