by Kefaya Diab
Published on: Jun 3, 2007
Topic:
Type: Short Stories

هارب...

صوت بصطاريّ الجنديين واصطكاك عقبي البندقيّتين بحزاميهما كان كلّ ما يمكن سماعه في تلك الساعة، الليل الستار يحيطُ بجميع الأمكنة، فيستر الجنديّين ويستر آخرين.

توقّفا لحظةً يصغيانِ لصوت قدميه، سمعا تعثّره بالحصى، أشار أحدهما إلى الآخر لمكان الصوت فانطلقا مسرعين.

كان صوتُ لهاثه يملأ الجوّ حوله، ودقّات قلبه تحثّه على الإسراع للهروب من مصيرٍ أسود مُحقّق، لكنّ ساقيه خذلتاه لحظة، فلحق به الجنديّان وكانت فرصةً للتصويب... لكنّ الطلقة أخطأته وسط الليل الحالك.

مضى مسرعاً يشقّ طريقه، وسط الشوارع الهادئة، وانعطف عند أوّل منعطفٍ صادفه، اصطدم بعامود كهرباء أمامه، فأمسك رأسه متحسّساً الألم، دون أن يشعر سوى بالعرق، واستغرب كيف لا يخرج الدم من رأسه ثائراً متفجّراً... ومرّةً أخرى أدركه الجنديّان فضاعف من سرعته، وإحساسه بالخطر يزداد مع كلّ نبضةٍ من قلبه، أصبح الآن لاهثاً، ألهب الهواء البارد حوله بلهاثه الثائر، تفصّد العرق من جبينه بشدّة، وملكته لحظةُ خوفٍ وألم وصفير الطلقة يعصف بكلّ الأصوات التي يسمعها ويطغى عليها، مرقت الرصاصة سريعاً مخترقةً العظام الصلبة فهشّمتها... أمسك ذراعه المستكينة، حملها وحمل الألم معه مخلّفاً قطراتٍ أبت إلّا أن تغسل أسفلت الشارع.

انحرف عند أوّل زقاقٍ قابله، وقد بدأت قواه تخونه، دخل في ممرٍّ صغير واستند على جدارٍ معدني لم يدر ما هو.
لم يعد الآن يسمع صوتهما، كان يودّ أن يسترخي فيحتوي ألمه يضمّ ذراعه يعصرها كي لا تستكين، لكنّ عمق اللحظة أوقفه في طريقه للاسترخاء، قام ماسكاً ذراعه علّها لا تنزف، مشى خطواتٍ حذرة للأمام، وانحنى مع الطريق والليلُ يزدادُ حلكة.
كانت ثمّة أصواتٍ تتعالى مع تقدّمه، أصوات موسيقى صاخبة وزغاريد وقهقهات صبايا بلا معنىً، من بيتٍ مجاور كان صوت مذياعٍ خافت وصوت مذيعٍ ينعى أمواتاً في مكانٍ ما، ويندّد بدولةٍ ما....
في بلدٍ ما هناك مأسورون، في بلدٍ آخر هناك منتصرون وآخرون منهزمون.

تحسّس جبينه فأحسّ بانتفاخ، ها هو الدم ضاق بهذا الرأس المسجون... تبدّى في السكون صوت أقدامٍ حذرة، فحمل نفسه مرّة أخرى، سائراً بحذر إلى الأمام... سمع تمتماتٍ، إنّهما الجنديّان.
تعالى صوت نحيبٍ من أحد الأزقّة بينما أصوات العرس تغادر للخلف، وأجفل لحظةً عند سماعه نغماً حزيناً يصدر عن جامعٍ قريب... إنّه الأذان.... يااااه كم اختلف صوته!!! ترى من ينعى الآن؟

اختلطت الأصوات في أذنيه، رافقتها دقّات قلبه الخافق ولهاثه كاد أن يفضحه، أسرَع أسرَع خطاه ما استطاع، وصوتُ الجنديّين يغادره.

وقف يستريح وهو يحسّ الألم يتغلغل داخل جسمه كلّه، وذراعه آلمته كما لا يمكن أن يستشعر ألماً، ليته يستطبع قطعها ليمضيَ خفيفاً إلى الأمام دون أن تعيقه.

من الأمام حاصره صوت قدمين حافيتين... بزغت من عتمة الزقاق طفلةٌ صغيرة باكية، همس لها "ماذا بك؟ ماذا أيتها الصغيرة؟" نظرت إليه خائفة وولّت من حيث أتت إلى ذات المصير الذي هربت منه.

تآمر الليل عليه، لم يعد يستطيع تحديد مساره، لا يعرف أين هو من المدينة الآن.... وفي لحظة توهان داس علبة صفيحٍ قرب حاوية فتنبّهت الخطوات خلفه لتستمرّ المطاردة... لمس جبينه إنّه ينتفخ، ومضى يقفز راكضاً تاركاً ذراعه المصابة تتبعه إن أرادت دون أن يتشبّث بها.
غادر كلّ الأزقّة، كلّ البيوت الصغيرة ومضى راكضاً بين البيوت الكبيرة وهو يتضاءل أمامها ناطحاتُ سحاب.
بدأ يحسّ أنّ أرجلاً كثيرة تلاحقه، وبدا الهواءُ ساخناً ساخناً. انحرف يميناً وقبل أن يصل نهاية الطريق لمح الجنديّين فتراجع، انحرف يساراً فوجدهما مرّةً أخرى وأسرع ضائعاً للخلف، إنّهما هناك، لم يبق له سوى أن يتقدّم للأمام، فمضى مسرعاً مسرعاً يخشى أن يجد الجنديين مرةً أخرى... كان الألم يزداد في ذراعه.... وصل آخر الطريق!!!!! ليُفاجأ بالبحر أمامه!!!
أيّ بحرٍ سحبوه أمامه؟!! أيّ بحرٍ هذا لم يره مدوّناً على خارطة؟
تعالت أصواتُ أقدامٍ كثيرة حوله من جميع الاتجاهات، تحاصره الذكريات والألم والأصوات، تحاصره دقّات قلبه من الداخل ولهاثه المتقطّع.
لم يتركوا لك سوى أن تلقي نفسك في بحرٍ أسود كئيب.... يحتار، تتملّكه الحيرة التي يكرهها وتكرهه، يزداد ألم ذراعه وتقترب الأقدام.
لأيهما يسلم نفسه؟ إنّه يستكين بفتور، يحسّ الآن دون أن يتلمّس جبينه، يحسّه يزداد انتفاخاً ويسيل منه سائلٌ لزج، يحتار في مصيره ويحتار، هل دمه قد ثار؟ أم أنّه عرقٌ مالح كمياه البحر؟

29/7/1993
عماّن- الأردن
كفاية ذياب


« return.