إنّ استشراف المستقبل العربي من أصعب مواضيع الاستشراف على المتخصصين في هذا المجال، ذلك لأنّ صناعة المستقبل في هذه الرقعة من العالم محكومة بنوعين من العوامل:
عوامل القوة والضعف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية المعروفة، وعوامل أخرى تتعلق بالمعتقدات والموروث الديني والقيمي الذي كثيرا ما يوظّف من طرف القوى الراغبة في تغيير التوازنات وصناعة واقع مختلف.
ومن الأمثلة العاكسة لذلك الثورة الجزائرية، وكذا المقاومة في لبنان، و فلسطين، وبسالة المقاومة العراقية رغم عوامل التشويه المحاطة بها من كل جانب.
فمن البداهة أنّ هذه الرقعة من العالم تعتبر أكثر المناطق حساسية وأهمية لما تحتويه من ثروات مادية وبشرية ومعنوية، ولما تمتلكه من تاريخ وتراث حضاري عريق عكسته مختلف مراحل وصور الصراع بين الحضارة العربية الإسلامية والقوى الدولية المعادية لها قديما وحديثا.
ا لا أن العالم العربي يمرّ بمرحلة ضعف مؤقت ولكنه يحمل في ثناياه بذور الحياة التي تتمثل في الكثير من المحاولات الجادة من أجل صناعة مستقبل أفضل رغم الطوق المحكم من طرف أنظمة وأجهزة الحكم و الكثير من النخب والواجهات المصنوعة، إذ ليس صعبا على المواطن العربي البسيط، أن يميّز مثلا بين ما كانت تقوم به المقاومة قبل وأثناء وبعد الحرب، وبين مواقف وتصرفات قوى 14 آذار ومن يدعمها عربيا، التي كانت تمارس الاستفزاز محبة في الآنسة رايس، في أشدّ لحظات القصف والتدمير الذي كان يشهده لبنان، وليس خافيا عليه أيضا محاولات بعض القوى الفلسطينية والعربية، وهي تقدّم الخدمات والجهود لمساعدة أمريكا وإسرائيل وبريطانيا وحلفائهم في محاصرة الشعب الفلسطيني بسبب اختياره لحكومة حماس، وهي نفس الصورة تتكرر عبر التاريخ، فحتى أثناء ثورة التحرير الجزائرية كانت بعض القوى الجزائرية تقدّم خدماتها للاستعمار الفرنسي، وتقف بكل قوة في وجه المشروع التحرري، إلاّ أنّ إصرار الثوار والتفاف الشعب حول القضية، حال دون تمكّن هذه القوى من إفشال المشروع الثوري الجزائري في مجمله، إلاّ أنّها تمكنّت من تشويه الكثير من نتائجه وتحويلها عن وجهتها.
و لذلك فنهايات الصراع بين بذور الحياة والواجهات المصنوعة و نتائجه هي التي تحدد المستقبل العربي ، إذ أن الاستشراف الصحيح هو القادر على رصد بذور الحياة في ثنايا الوطن العربي، وقدرتها على التفاعل والتأقلم والتموقع ضمن التوازنات الحالية، وإصرارها الدائم على تغييرها باستمرار من أجل القضاء على الضعف المؤقت وصناعة القوة المنشودة، واسترجاع الحق المشروع للوطن العربي على الأقلّ في التمتّع بعوامل القوة التي يمتلكها، ولما لا في الطموح المشروع لقيادة العالم أو على الأقل جزء منه.
فبعد أن تحررت جميع الأقطار العربية من الاستعمار المباشر (ما عدا فلسطين)، يشهد الوطن العربي اليوم الكثير من التطورات الإيجابية، كروح المقاومة التي سكنت في وجدان المواطن العربي ، وخصوصا مع انتصارات المقاومة في لبنان، وصمود الشعب الفلسطيني ، فضلا عن صمود المقاومة العراقية رغم كثرة الألغام المحاطة بها، كل ذلك وغيره شكل إرباكا للآخر تجلى في فشل مشروع السلام وخارطة الطريق وتحرير العراق ومشروع الشرق الأوسط الكبير والجديد، كما كان الأثر جليا في الداخل الإسرائيلي والانتخابات التشريعية الأمريكية مما دفع الغرب لاستعمال وسائل مكشوفة أبرزها الإبادة الإسرائيلية في لبنان وفلسطين بتزكية وحماية ما يسمى "المجتمع الدولي"، وكذا ما تفعله أمريكا وحلفاؤها في العراق وأفغانستان، مع الإمعان في صناعة بؤر توتر جديدة على غرار دارفور وغيرها، بالإضافة إلى إطلاق مسلسل الإساءات للإسلام الذي يهدف إلى جملة أهداف منها وقف المد الإسلامي في المجتمعات الغربية، خصوصا بعد أن أصبح يؤسس لبروز لوبي عربي إسلامي في مواجهة اللوبي الإسرائيلي في أمريكا والغرب، والواقع أنّ الحرب النفسية والضغط الكبير جدا الممارس في هذه المرحلة على المهاجرين العرب، يفرض على الدول العربية مد يد العون لهؤلاء على الصعيدين الرسمي والشعبي، وتشجيعهم على مواصلة بناء اللوبي العربي الذي يمثل هدفا استراتجيا لا بدّ منه. و الملاحظ أن وسائل المواجهة البارزة هذه جاءت بعد أن فشلت مخططات ومحاولات التخويف من الإسلام، وإلصاقه زورا بالإرهاب، وصناعة الواجهات المزيّفة كالقاعدة وغيرها من وسائل الصراع المنتجة في مخابر دولية متخصصة لا تخفى على المثقف العربي الواعي.